نسمع عن الإصلاح، ولكن أينه؟

من يقول إن “حدّوثة إبريق الزيت” تراث مضى، فهو واهم…

فهذه الحكاية القصيرة الطويلة التي سمعناها وتعبنا مع حلقاتها المفرغة صغارًا، نراها “تتبختر” بين ظهرانينا صباحًا ومساءً، يومًا بعد يوم، وسنة بعد سنة، وعقدًا بعد عقد من السنين. صحيح أن اسمها تغيّر، ولكنها هي هي: “حدّوثة إبريق الزيت”، وإن استعارت لنفسها مسميّات جديدة، بما يتواءم مع مزاج هنا، وحالة هناك، وبين مطلب طالع، وآخر نازل. ويبدو أن المسمّى الأهمّ للحدّوثة صار “الإصلاح” في بلدنا الغالي، الأردن.

ومع أن القيادة السياسية الأعلى في البلد نادت ثمّ نادت الحكومات وكلّ المعنيّين بالشروع الجاد في العمليّة الإصلاحية، إلاّ أن هذه العملية تبدأ في الإعلام، وتكاد به تنتهي. مرّة تتشكّل لجنة، وفي أخرى تتمّ اللقاءات، وفي ثالثة يبادر المبادرون، ولكن، ما من إصلاح! وهنا يكمن السؤال-المعضلة: لماذا؟!

لنتفق أولا على ماهيّة الإصلاح المنشود، وميادينه، وأولويّاته، وسبُل تنفيذه.

في الماهيّة، لا تأتي الدعوة للإصلاح العامّ، إلاّ في مواجهة حالة عطب أو عطل أو خلل سائد، يمثّل الاستمرار في التعايش معه مخاطر تبدأ بسوء حال العباد، ولا تتوقف عند سوء حال البلاد، بل قد تطال قضايا الأمن الوطني والسلم الاجتماعي، وتتجاوزهما إلى ما هو أبعد من ذلك…

وفي ميادين الإصلاح، تبرز في بلادنا عناوين الاقتصاد والسياسة والإدارة، ولكل منها ميادينه الفرعية، ومفاعيله الاجتماعية والحياتية المباشرة، وبعيدة المدى، مثلما هو الحال مع مجمل مسيرة الوطن والمواطنين، أي الدولة في كلّها وفروعها. أمّا في الأولويّات، فتتسابق قضايا الاقتصاد والسياسة على قمة سلّم الأولويات، وتمرّ قضايا الإصلاح الإداري، وما أصعبها، في مرتبة ثالثة…

وفي سُبُل التنفيذ؟

نادرًا ما نسمع أو نقرأ ما هو مقنع في هذا الموضوع خصوصًا، ولعلّ السبب في ذلك مردّه في أن هذا هو مربط الفرس، والذي في حدّه الحدّ بين السير فعلا في طريق إصلاحات جوهرية، أو “تسليك الوقت”، إلى أن يأتي فرج ما، لا أحد يعرف مصادره الدنيوية الملموسة. وحتّى لا تكرّر هذه المقالة الخطأ نفسه، وفيما يشبه التذكير بأبجديّات السياسة، يمكن القول إن الميدان السياسي يبقى ذو أولوية، وبدون أولوية السياسة، بما هي إدارة للصراعات، يصعب فعلا الخوض في عمليات إصلاح اقتصاديّ أو إداري أو أيّ إصلاح آخر. السياسة تقرّر الاتجاهات، والاتجاهات حاسمة في أيّ عملية إصلاحية ذات مصداقية. وبالطبع، هذه المنظومة لا تعني الفصل بين المركبات، فالسياسي والاقتصادي والإداري مركبات تتفاعل في كل لحظة، ضمن نظام واحد، وأن تكون الأولوية للسياسة، لا يعني انتظار تمامها، لتبدأ بعدها عملية أخرى… هذه المركبات متفاعلة، تعيش معًا ولا تنفصم، ولكن الرؤية السياسية هي التي تحدد مسارات العمليّات الأعمّ، وهنا تأتي الأولوية.

ولكن من أين لنا أن ندير سياسيّا هذه العملية المركبة، ونحن نعيش عشرية سنوات بعد أخرى مع نظام انتخابيّ يصرخ أنه فاشل، وفيما “الخوف” من القوائم الوطنية يطغى على كلّ اعتبار آخر، والأحزاب والحريّات والإقبال على العمل الحزبي كينونات تئن تحت ما يشبه “العرفية من طراز جديد”؟ ومن أين لنا أن نصلح سياسيا، وفي الإدارة ومواقع أخرى من مصانع القرار ما بها من “حرس قديم” لا يرى الإصلاح إلا تهديدًا له و”لمكتسباته” المشبوهة!! والتلويح “بالديمغرافيا” صار شمّاعة كل نكوص عن التغيير، لتبقى شعارات “دولة المواطنة” أمام علامات سؤال كبرى! والأردن الذي شهد من قبل في مسيرته المديدة حكومات برلمانية فاعلة وقوية، وحياة حزبية متقدمة، صار “يُتّهم” زورًا بأنه غير مهيّأ بعد للديمقراطية ومتلطباتها، وفي ذلك مجافاة للواقع، وإساءة للأردنيّين التوّاقين للنهوض بدولتهم، ديمقراطيًّا، وفي شتّى المجالات…

وسياسيا واقتصاديا وإداريا (خصوصا)، أتعبنا تراكم تدنّي الكفاءة، وغياب الضمير العامّ أمام أهل المصالح الشخصية، والقفز عن المحسوس بعبارات جهوية ضيقة، تخفي في الواقع رغبة في دفن أيّ تغيير جادّ، والذي هو في الواقع تهديد لكلّ عدوّ للتغيير.

وفي خلاصة غير كافية، لا بدّ من القول إن الأشخاص الذين أنتجوا الحاجة إلى إصلاحات بهذه السعة وهذا العمق، غير أهل لحمل أعباء الشروع في إصلاح جادّ، وسيحاولون حتى أمام القيادة الأعلى للدولة، أن يراوغوا ويماطلوا، وقد فعلوا ذلك وسيفعلونه، بصورة أو بأخرى… أنريدهم أن ينقلبوا على أنفسهم، وأن يأتيهم إلهام الإصلاح والديمقراطية والعدالة وحسن الإدارة من حيث لا يدرون، ومن حيث لا يريدون، ومن حيث لا يستطيعون؟ هاتوا مفردات جديدة، ولنأمل أن نصل إلى جُمل جديدة ونصّ جديد!!