من إيجابيات الغربة .. صناعة الطبّاخين!

سواء أكنت لاجئا رغما عنك أم مهاجراً بملء إرادتك، لن تجد مهرباً من ورطة تحضير الطّعام بنفسك.

هذه المشكلة التي تتعامل معها قلة قليلة من اللاجئين الشباب بمنتهى البساطة والإبداع أحياناً، وذلك لأسبابٍ تتعلّق بعادات أمّهاتهم في تحضير الطّعام، وحرصهم وهوسهم الشّديد بالنظافة، كذلك يشكّل الطبخ مصدر إزعاج وأرقٍ للذين لم يدخلوا المطبخ في حياتهم.

فتراهم يذهبون إلى المطاعم لشراء وجبة سريعة لا تسكت صراخ أمعائهم التي تقرحت من البيض المقلي والزعتر واللبن المصفى، والأنكى من ذلك أنهم يقدّمون أعذاراً واهية بعدم معرفتهم الطبخ، وبعضهم يكذب على نفسه حين يقول إنه يعرف، لكنه لا يريد أن يتعب نفسه.
وأغلب الشباب الذين يعانون ويلات الغربة، من الحنين إلى الوحدة، وصولاً إلى الظروف المعيشية والاجتماعية القاسية التي يعيشونها، تجدهم في بداية الأمر يلجؤون إلى البطاطا المقلية حيث الجهد القليل، والسّعر الزهيد، والوقت القصير، والوزن الزائد الذي لا يلحظونه، ويتطوّر الأمر قليلاً حين يكتشفون مضارّ الزيت، فيتجهون إلى أوّل محاولة حقيقية في الطبخ، وهي إعداد طبقٍ من الأرز.

وعند طبخ الأرز يحسب الطاهي ألف حسابٍ، لا في المقادير، بل لردّة فعل من سيتذوّق ذلك الأرز، فتارة يحالف الحظُّ هذا الشابَّ في نجاح محاولتِه الأولى، والتي أجرى لها اتصالاتٍ عديدة مع أمّه، لتعلّمه خطوة خطوة سرَّ الأرز ذي الحبّات المفلفلة. وحيناً آخر يعاند الحظُّ من يجرّب الطبخ دون علم، فتراه يقدّم عجينة الأرز، ليظلّ رفاقه يذكّرونه بذلك على مرّ السنين.

أما المحاولة الثانية، وهي الأكثر صعوبة فتتجلّى في تحضير الشوربة، أو طبخة مرق، حيث يلجأ هذا المسكين إلى اليوتيوب، ليشاهد ما تيسّر من مقاطعَ لطرقِ التحضير، فيطبّقها بحذافيرها كما يظنّ، وعندما يكون المذاق غريباً، يتذكّر أنه نسي خطوة، أو ثلاث خطوات!
والأجمل من ذلك أن الشابَّ الذي يقدّم طبقاً شهياً كلَّ مرّة، تجده يبحث عن طبخات جديدةٍ يتحدّى بها الأندومي والفلافل، لكنّه لا يدري أن الذين معه في البيت سينصبونه ملك الطهاة، لا تشجيعاً أو تقديراً له، بل لأنهم وجدوا من يريحهم من التفكير في ما سيطبخون.

وقد لا يعلم الآكلة الكسالى أن من يطبخ لهم إنما يتحاشى أن يأكل ممّا تصنع أيديهم، وأنه يكتسب موهبة جديدة في حياته.
لكن هناك بعض العثرات التي تقف عائقاً أمام خروج أطباق هذا الطاهي بمذاقات لا تنسى، لعلّ أهمّ عثرة هي أدوات المطبخ، والتي غالباً ما تكون أثرية لفرط استعمالها من قبل الشباب السابقين، وكذلك حرص صاحب السّكن على عدم التبذير، ورغبته في تعليم هؤلاء الشباب أهمية التأقلم مع الظروف الصعبة، وعدم التفكير بأنهم في هذه الغربة سائحون يقيمون في فنادق فخمة.

وكذلك تشكّل الاجتماعات الفجائية التي تعقد في المطبخ ارتباكاً وفقداناً مباغتاً للذاكرة، فينسى الطاهي المحترف كم ملعقة ملح وضع، وفي أيّ وقت أشعل الفرن، ومتى تفقّد العدس حين السّلْق، لذلك تكون الأعذار والمبررات جاهزة ومقنعة لمن يجلس في فراشِه منتظراً الفرج بأيّ مذاق جاء.
وربما يجد ذلك الشابُّ المحترف في الطبخ أن تلك الخطوة قد تصبح مشروعاً يجني منه المال، حين تلوح في باله فكرةُ افتتاح مطعمٍ صغير للوجبات الشعبية التي تلاقي إقبالاً من قبلِ شريحة واسعة من الذين لم يعرفوا بعد فوائد تعلّم الطبخ، حين يكونون لاجئين ومغتربين، ولم يعرفوا أيضاً أن للغربة حسنات جمة منها صناعة طبّاخين عن طريق الصدفة.