ارشيف الملاذ نيوز

!كيف نجا أبو هنّوش من الموت المحقق ؟محمد داودية

كنا في نحو الخامسة عشرة من عمرينا، أنا وصديق الطفولة والكهولة، عبد المهدي علي التميمي، نبحث عن «حكماء» بلدة المفرق الصحراوية، ولا نتوقف عن زيارتهم في منازلهم او في متاجرهم، نستمع اليهم بتبجيل وبيقظة وتفكّر. كان فينا شغفٌ وظمأ الى المعرفة، فذهبنا الى منابعها ومظانّها نبحث عنها.
استمعنا الى المكتبيين البارزين، محمد سكّر العقايلة وموسى فريح السهاونة والنائب البرلماني محمد علي اخو ارشيدة ومحمد العيطان أبو قاسم ورئيس البلدية محمد سلامة الحسبان (والد الشهيد فرحان) والشاعر حسن غالب حسونة وصايل الحسبان (أبو محمد وإبراهيم ومصطفى) وعادل عوجان والطبيب مارون لويس شباط وعادل الشريقي وابي العلاء الداغستاني وشوقي حمارنة وعمر الرواد وعلي التميمي والخوري بولس حداد (أبو مالك) وفارع النهار الشواقفة وثلجي فريح النمري ونايل سلامة حجازي وأبو حلمي عبد الهادي والشقيقين محمد ومزعل مشري الخوالدة وحميد شردم (أبو احسان وتحسين) ونورالدين الشريف وعبد الفتاح المغربي وطبيب الاسنان أبو عبدالوهاب البغدادي (والد الموسيقار سمير) والشقيقين محمود وعلاء مكّي (الذي اصبح رئيسا لتحرير صحيفة المجاهد الجزائرية).
أخذنا الكثير من اولئك الحكماء، وادهشتنا تجاربهم الواسعة العريضة وفتنتنا وتشربناها قطرةً قطرة، وطبقنا ما امكننا، نصائحَهم الثمينة المتنوعة التي لا تقدر بمال.
استمعنا من ضمن ما استمعنا اليه، الى قصة مذهلة، حدثت مع فلاح بسيط، تصلح ان تُدرّس في ارقى جامعات العالم التي تُعنى بالاستراتيجيات.
كان شهر تموز الذي تغلي فيه الماء في الكوز.
بعد مرور عشر سنوات على الحادثة المرعبة، التي وقعت في الاغوار في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، يقص علينا «أبو هنوش» بصوت متوتر منفعل مرتعب، وهو يلوح امام اعيننا بيده اليسرى المبتورة الأصابع، باستثناء الابهام فيقول وعمر القارئين يطول:
كان الوقت ظهرا، وكنت وحدي في هجير كجهنم الحمراء، أحصد قمحا «وأهيجن» حين برزت لي الأفعى القاتلة من تحت المنجل، لدغت يدي اليسرى وانسلت. في تلك اللحظة، لم افكر في مطاردتها وقتلها! نطقت الشهادتين وأخذت ابكي، حتى انني عزيت نفسي: «الدايم الله. عظّم الله أجركم» ففي تلك الفلاة، لا هاتف لا سيارة لا فرسا لا مركزا طبيا ولا سامع صوت.
كان سم الافعى القاتل يتفشى في جسمي، وأكاد أحس سريانه. رأيت الموت يدنو مني. التقطت المنجل الذي وقع مني ووضعت يدي اليسرى على الصفاة وهويت عليها بمنجلي. وبلمح البصر رأيت اصابعي الاربعة تتطاير في الهواء وتتقافز امامي كالأفاعي. شددت حزامي على رسغي لوقف النزيف الذي حمل معه السم، وغرقت في غيبوبة كالموت حتى العصر، حين هرع الى مكاني، الاهل والحصادون من «الموارس» القريبة.
في سرعة الضوء، اتخذ الفلاح البسيط «أبو هنّوش» الذي لم يدخل مدرسة، قرارا استراتيجيا مصيريا صائبا، قرارَ حياة، لا مجال لاتخاذ قرار غيره اكثر منه صوابا. قطع جزءا من جسمه ليسلم جسمه كله.
في المفرق، البلدة المغبرة الجافة، التي تقف على سيف بادية الشام، كما في كل ارجاء مملكتنا، حكمةٌ وافرة ملقاة على القارعة، تلمسها وتشمها وتشربها، وتراها تسعى في الطرقات تقول لك خذني أيها الانسان وأنقذ نفسك بي.
تكمن المشكلة في أنّ الكل مكتفٍ، والكلُّ يوزع الحكمة، التي لا ينشدها أحد، ومنها حكمة الحياة، التي دمغها الحكيم «أبو هنّوش» بالدم.